(( سيكولوجيا الأدب ))
تعد العلاقة شديدة الاتصال بين الأدب وعلم النفس . وحسب الأدب أن يكون واضعه ومتلقيه ومحرره إنساناً حتى يغري دارسه بدراسته.
ويقدم علم النفس المفاتيح السحرية لدراس الأدب تجربة وإبداعاً وتحليلاً ولقد استخدم المنهج النفسي في دراسة الأدب منذ القديم ومع أنه بقي غير كاف في توضيح جميع جوانب الأدب إلا أنه يبقى مفيداً في الكشف عن غوامض وخبايا العمل وصاحبه .
يقول الدكتور محمد مندور في كتابه (( في الأدب والنقد ))ص 188 :
((أما علاقة الأدب بالفرد فتدور حول الحاجات الإنسانية التي يمكن أن يشبعها كفن جميل وكأداة للتعبير عند الفرد . وأهم مبحث هو تحليل حاسة الجمال عند البشر والبحث عن أصولها وأهدافها المختلفة والتمييز بين مفارقاتها فهناك الشيء الجميل أو اللطيف أو الجليل ومن حيث أن الأدب تعبير جمالي نفسي فعلى علم الجمال الأدبي أن يقف عند (( نظرية انتقال المشاعر )) كأن يحب الشاعر مثلاً كلب معشوقته من أجلها)). والشعراء العرب كثيراً ما كانوا يحبون ديار محبوباتهم لأنها تمثل هذه المحبوبة.
وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا
وما وصف الأطلال عند شعراء الجاهلية إلاّ بشخصيات نوعاً من هذه النظرة (( انتقال المشاعر )) وإذا كان من اللزام على الدارس أن ينبش الكنوز المختبئة في بواطن الأدب فإن من المفيد له أن يمعن النظر في عملية الإبداع وفي المبدع نفسه والقوانين النفسية المتحكّمة بشخصيات العمل الأدبي وبالأدب نفسه وسنفصّل القول في هذه القضايا.ففي دراسة عملية الإبداع وآليتها يمكن لنا أن نشير إلى نظرية الإلهام عند أفلاطون الذي يعتبر أن المقدرة الإبداعية عند الأديب هي (( الحماسة أو الحب )) –إيروس –ويرى أن مصدر هذا الإلهام هو الوحي الإلهي حيث تدفع (( ربات الشعر )) موضوعات الشاعر له وعلى هذا فإنه يمكن للآلهة أن تنزع العقل عن الشعراء وتستخدمهم كهاناً أو سحرة ملهمين .
وتقوم عمليّة الإلهام عنده على تذكرّ الإنسان لما رآه من صور وماهيّات في عالم المثل الذي كانت تحيا فيه النفس ومن ثمّ تقليد هذه الصور في عالم المحسوسات مما يجعل الشاعر يحسّ بالجزع والحزن الذي يعقبه شعور بالحماسة يدفع الشعر على شكل أغانٍ.وأكثر الشعراء مدانون بأشعارهم الجميلة للحماسة ولنوع من الغييبوبة لا للفن وهم يشبهون على حد قول أفلاطون كهّان الآلهة (( سيبلي )) الذين لا يرقصون إِلا إِذا خرجوا عن شعورهم وهذه الحالة تشبه حالة الوجد والشوق عند بعض فرق الصوفية في بلادنا والتي ترقص إِذا هي أتحدث بالغيب وتجاوزت الوجود وقد اتبع أصحاب المذهب الرومانسي طريق أفلاطون وترسّم خطاه وصبغوه بلون من التصّوف فعند ((فكتورهيغو)) الشاعر ساحر يسمع ويردّد ما يتلقاه من عالم الغيب بينما يرى ((شيلي)) أن الشاعر ينقل للناس رسالة من عند الله .
لقد كانت نظرة الرومانسيين الأوروبيين للإِلهام تلتقي مع نظرتهم للطبيعة فكلامها هبة من الله .
ويعتبر الإمام أبو حامد الغزالي أن الإلهام كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صافٍ لطيفٍ فارغ .
بينما يرى محي الدين بن عربي أن الإلهَام ظاهرة ممكنة الحدوث لأيّ إنسان بشروطٍ هي :
- إيمان هذا الإنسان بقدرة القوة الخارقة /الله / .
- كون الإنسان صافي الذهن .
- استعداده لإدراك لطائف المعرفة .
ولكنه أي (( ابن عربيّ )) كأفلاطون يرى أن الإلهام فيض يتلقاه الإنسان من خارج الذّات .
ويعد ابن سينا الإلهام حدساً أو إِشراقاً يتحصل في النفس فتدرك الموجودات والمعقولات بما تستفيد ه من العقل الفعال وقد يكون الإلهام رؤيا بينما يكون الحدس متفاوتاً بين الناس ولا يمكن التوصل للعقل الفعال إِلا بالاتصال بالله و ملائكته وقد أعتبر ابن سينا الإلهام طريقة لتحصيل المعرفة من العقل الفعّال وترى الاتجاهات الحديثة وعلى رأسها ((ووردزوورث )) أن الشعر تعبير عن انفعال مستعاد بهدوء تظهر فيه غريزة إِظهار النفس ((حبّ الظهور )) وهذه الغريزة الاجتماعية ناجمة عن الرغبة في التعاطف ،والتلذذ بإِنشاء شيء جديد الشاعر كالطفل ينشئ لينفّسَ عن وجدانه الزائد . وهو أي الإلهام تألق وانجذب عند ((دي لاكروا )) و (( فيليكس )) بينما يرى (( ديكارت وبرغسون و اوستن وارين )) أن الإلهام عملية تأمّل لا شعوري ينتهي بالحدس .
ويبدو أن الفنان كما تزعم (( أديت ستويل )) يحتفظ روحياً ونفسياً برؤياه كما يحتفظ الطفل بمباهج الكون حين تبدو له. وهو كنبي الله موسى عليه السلام يرى الإِله من خلال العلّيقة المحترقة ويرى (( لامب )) أن الفنان يحلم في اليقظة بينما يرى ((بول فاليري)) أن الملهم تستلب إِرادته فتنهال عليه الأفكار .وإِذا تجاوزنا ((لامب )) إلى ((بودلير )) نجد أن مبدأ الشعر عنده يعتمد على الطموح الإنساني إلى جمالٍ سامٍ يكمن بالحماسة وانخطاف الروح وهو أي الإلهام عند ((بالدوين )) إِشراق ذهني يأتي مما وراء الطبيعة وهذا يخالف ما قاله ((ادغار آلن بو )) من أن عملية الإلهام موجهة من الشعور ويرى (( فرويد )) أن الإلهام حالة اللاشعور – التسامي – بينما يعتبر تلميذه يونغ ان مصدر هذا الإلهام الإسقاط في اللاشعور الجمعي الذي تكوَّن ضمن بيئة معينة وتلقى مفاهيم مختلفة . لقد تحدث أرسطو عن التطهير الذي تحدثه المأساة فينا وأشار إلى الإلهام، ولكن يبقى أن نقول إِن الإلهام عملية معقدة لم يستطع الأدباء والشعراء ولا علماء النفس أن يجدوا لها التفسير النهائي وستبقى الآراء متضاربة ومختلفة حول ماهية الإلهام .فهو كالروح سر من أسرار الوجود يشع ولا نرى مصدر إشعاعه ويتحدث ولا تبصر فمه ويسري في عروقنا ولا نلمسه بأيدينا .
إِن التفسير الخرافي الذي تبنّاه شعراء العرب سابقاً يجعلنا نؤكد أن عملية الإلهام عملية معقدة وهذا ما جعلهم ينسبون الشعر لشياطينهم حتى أنهم جعلوا بعض هذه الشياطين ذكوراً وبعضها إناثاً (( ولي صاحب من بني الشيصبان / فطوراً أقول وطوراً هو )) وقد بقيت التفسيرات الأدبية لمصدر الإلهام غامضة حتى جاء فرويد وتبنى نظرية جديدة في تفسير عملية الإلهام وما يميز نظرية فرويد هذه عن غيرها أن فرويد زعم أن أفعالنا تحفزها قوى نفسية لا نعرف الكثير عنها وأن هذه القوى الغامضة لا نستطيع التحكم بها إذ أنَّ مركز الثقل في الحياة النفسية الإنسانية هو اللاشعور ولا يمكن لنا أن نعرف هذا ((اللاشعور )) إلا من خلال تأثيره اللاحق في حياتنا وبعد فوات الأوان فالعمليات الواعية تكون واعية لفترة قصيرة ترتد بعدها إلى دائرة / اللاوعي / وهذا / اللاوعي / عالم محوط بالأسرار العميقة ويميز فرويد بين نوعين من / اللاوعي / نوع يمكن تحويله بسهولة وبشروط إنسانية إلى وعي ونوع يستحيل تحويله إلى وعي إلاّ بمعجزة كبيرة .
وقد أفسخ فرويد مجالاً للواقع الجنسي في اللاوعي الإنساني وهذا ما أخذ ّ عليه وقد رفض ذلك تلميذاه (( يونغ وإدلر )) .
هذا وقد قسم فرويد المناطق النفسية إلى منطقة ال/ هو / وهي مركز الثقل في حياتنا النفسية وخزّان الدافع الجنسي ومنبع الطاقات الحيوية فينا يحكم هذه المنطقة مبدأ اللذة وإِشباع الغريزة وهذه المنطقة تعادي وتكره المنطق ولا تعرف القيم الاجتماعية ولا الضوابط الخلقية تنطوي على دوافع متناقصة يمكن لها أن تتجاوز دون مشكلة غايتها إِرضاء الغرائز وهي مدمرّة في نهاية المطاف لا تهتم بسلامة الذات والآخرين .
ومنطقة ال (أنا ) وتعتبر النظم الأول لطاقات ال(هو) والرقيب عليها تنظم الدوافع على نحو يسمح به الواقع ويرضى به المجتمع حيث تجنّب الذات النهاية المدمرة فما يسمح به الواقع يلبى وما لا يسمح به يدفع إلى أعماق ال (هو) فإذا كان عسيراً تحول إلى /عقد / ويعتبر الجزء الكبير من منطقة الأناغير واعٍ ويسمى الجزء الواعي منه/ العقل الواعي / .
ويسند على الأنا دور الوسيط بين ((اللاوعي )) و(( العالم الخارجي ))وبين الرغبات غير المحدودة التي تقّرها الظروف والشروط الواقعية . ومنطقة الأنا الأعلى وهي المنظم الثاني لمنطقة ال((هو )) والحارس المتيقظ عليها خزان الأخلاق والمروءة والضمير الجزء الكبير منه غير واعٍ وهي قوة هامة يستنجد بها المجتمع لحماية نفسه من النزوات والرغبات والغرائز المدمرّة والتي لا يستطيع ال (( أنا )) وحدة تدبيرها أو كبحها أو لجمها يمارس عمله من خلال ال (( أنا )) أو مباشرة يقف أمام اندفاع اللاوعي عندما لا يقره المجتمع وينمو من خلال تربية الأسرة والمربين وهو محكوم بمبدأ الأخلاق ومبدأ الثواب والعقاب، فإذا كان نشيطاً أدى إلى الإحساس بالذنب .
هذا التقسيم الذي تبناه فرويد لاقى أستحساناً من قبل الأدباء و دارسي الأدب و ساهم بشكل كبير في فهم عملية الإبداع ورغم أن فرويد حيى بأنه مكتشف اللاوعي في الاحتفال بعيد ميلاه السبعين إِلا انه أشار إلى أن الشعراء والفلاسفة هم مكتشفو اللاوعي وما كشفه فرويد هو المنهج العلمي لدراسة اللاوعي إِن علم النفس يقول/رينيه ويليك/ و/ أوستن وارين / في كتابهما (نظرية الأدب ) ساهم في الكشف عن عملية الإبداع , وفي نبش خبايا نفس المبدع وفي الكشف عن غوامض العمل الأدبي (2) .
وفي دراسة نفسية الكاتب يبدو أن العبقرية لدى الكاتب / الشاعر / كانت تقرن بالجنون عند الإغريق وتنسب إلى شياطين الشعر في وادي عبقر عند العرب وأصبحت حديثاً تؤوّل بالمدى الممتد من العصاب إلى الذهان فالشاعر رجل مجذوب عند البعض والموهبة تعويض عن نقص عند الكاتب على مبدأ كل ذي عاهة جبار فقد كان أبو حيان التوحيدي أعور وابن سيدة اللغوي الأندلسي أعمى وكذلك بشار بن برد وأبو العلاء المعري وربيعة الرقي وطه حسين وعبد الله البردوني وكان بيتهوفن أصم وكتيس قصيراً وبروست عصابياً وبايرون أعرج وبوب أحدب ، فالكاتب عند فرويد عصابي عنيد يصون نفسه بوساطة العمل الأدبي من الانفجار وتثير نظرية الفن كعصاب التي تبناها الكثير من المفكرين مسألة علاقة المخيلة بالاعتقاد ، فالروائي يشبه الطفل الحالم الذي يحكي لنا الحكايات فيخلط عالم الواقع بتخيل من عالم آلامه وآماله ومخاوفه ويرى أليوت أن الفنان أكثر بدائية كما هو أكثر تمدناً من معاصرية وباعتبار أنّ الكاتب عضو في مجتمعه فهو أكثر الناس تمكناً في التعبير عن أحاسيسه رغم أنه ليس أكثر الناس إِحساساً ، ويوفرّ الكتَّاب والشعراء المادة الخصبة للمحلل النفسي لأن شخصيات أعمالهم تمثل أنموذجاً يمكن دراسته والحكم عليه إِن / أوستن وارين / يعتبر الشاعر حالم يقظة يحظى بقبول المجتمع وبدلاً من أن يغير شخصيته ينمي خيالاته وينشرها (3) .
يقول فرويد ((الفنان في الأصل رجل تحول عن الواقع لأنه لم يستطع أن يتلائم مع مطلب نبذ الإشباع الغريزي فأطلق الفنان كامل رغباته الغرامية ومطامحه الذاتية في حياة الخيال ثم وجد طريقاً للعودة من عالم الخيال إلى عالم الواقع وهو يصوغ نوعاً آخر من الواقع / العمل الأدبي / )) .
إِن الأديب إِنسان شفّاف مشرق الروح والفكر تتميز أعصابه بحساسية دقيقة تكتشف الواقع بكل أبعاده ومعانيه وتتحسس الصعوبات التي تتوضع في حياة الآخرين سواء أكانت فكرية أم اجتماعية أم فلسفية وهو في الوقت نفسه يعشق الجمال والكمال المطلق بفطرته التي وهبها الله له وباعتبار أن الصراع قائم بين ما هو واقع / فعل _ فكر غير مرضي / وبين طموح الانسان لبلوغ الكمال المطلق فإن الأديب يرسم لنا صورة هذا الصراع ويفترض الحلول المشرقة لصورة الواقع المشّوهة. فصورة المرآة في الواقع أقل مكانة من صورتها في الأدب وكذلك صورة المعلم / كاد المعلم أن يكون رسولا / إذاً لا يقبل الواقع على ما هو عليه لأن شكل الكمال المطلق الموجود خياله وفكره .
وتدعونا دراسة نفسية الكاتب إلى الكشف عن القوانين النفسية التي تحكم الشخصيات التي يرسمها هؤلاء الكتاب في أعمالهم ذلك أن الإنسان هو محور الأدب وهذا ما يدعونا في قراءتنا لأي نص أن نجد نموذجاً لإنسان ما يحملنا على التفكير في الأسباب التي دعت هذا الأنموذج من الناس إلى التصرف على هذه الشاكلة أو تلك ./ فدون كيشوت سير فانتس / قتل مجموعة من الأغنام وتصورها أعداء له ولما اكتشف أنها أغنام وليست بشر قال : الحمد لله الذي مسخ أعدائي أغناماً وكذلك فعل الشاعر العربي (( الراعي النميري)) المصاب بلوثة في تفكيره مع كلب وظاناً أنه لص .وأوديب تزوج أمه وقتل أباه وشهريار كان مولعاً بالزواج والقتل يتزوج كل ليلة أمرأة ويقتلها في الصباح وشخصيات قصائد نزار قباني من النساء لأن مأساة أخته وصال بقيت ماثلة أمام عينيه .
وكثيراً ما يعكس الكاتب دوافعه النفسية على لسان شخصياته أو كثيراً ما تندفع الشخصيات بالحديث المختبئ في عمق وجدان الكاتب ذلك أن الكاتب عضو في مجتمع يستمد منه أفكاره وتؤثر فيه معطياته .
إن شخصيات قصة / أرزاق يا دنيا أرزاق / للكاتب السعودي علوي طه الصافي هي شخصيات من صميم المجتمع تحكمها دوافع نفسية راسبة في أعماق لا وعيهم فأعظم شخصية في هذه القصة تحكمها آلام القهر والصمت والفقر وأكثر ما يبعث التناقض في حياة هذه الشخصية أن المغنّي يجمع الملايين بينما الملايين لا يجدون إلا أوراق الشجر طعاماً لهم ، وكذلك شخصية الزوج السكير في قصة / شمس صغيرة / لزكريا تامر فهو حالم يقظه يتصور الخروف جنياً يمكن أن يقدم جدار من الذهب التي وعده إياها ويمكن له بذلك أن يحل مشكلة الفقر التي تسيطر عليه وتسير حياته ، أنه رجل تحكمه ال (هو ) بما فيها من رغبات وغرائز .
وبناءً على ذلك يمكننا أن نجمل القول بأن علم النفس دخل في صميم الأدب وأصبح مسباراً فعالاً يساهم في الكشف عن جوانب العمل الأدبي وفي نبش ذات الكاتب وتوضيح اتجاهاته وهو ضرورة هامة من ضرورات الأدب .
تعد العلاقة شديدة الاتصال بين الأدب وعلم النفس . وحسب الأدب أن يكون واضعه ومتلقيه ومحرره إنساناً حتى يغري دارسه بدراسته.
ويقدم علم النفس المفاتيح السحرية لدراس الأدب تجربة وإبداعاً وتحليلاً ولقد استخدم المنهج النفسي في دراسة الأدب منذ القديم ومع أنه بقي غير كاف في توضيح جميع جوانب الأدب إلا أنه يبقى مفيداً في الكشف عن غوامض وخبايا العمل وصاحبه .
يقول الدكتور محمد مندور في كتابه (( في الأدب والنقد ))ص 188 :
((أما علاقة الأدب بالفرد فتدور حول الحاجات الإنسانية التي يمكن أن يشبعها كفن جميل وكأداة للتعبير عند الفرد . وأهم مبحث هو تحليل حاسة الجمال عند البشر والبحث عن أصولها وأهدافها المختلفة والتمييز بين مفارقاتها فهناك الشيء الجميل أو اللطيف أو الجليل ومن حيث أن الأدب تعبير جمالي نفسي فعلى علم الجمال الأدبي أن يقف عند (( نظرية انتقال المشاعر )) كأن يحب الشاعر مثلاً كلب معشوقته من أجلها)). والشعراء العرب كثيراً ما كانوا يحبون ديار محبوباتهم لأنها تمثل هذه المحبوبة.
وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا
وما وصف الأطلال عند شعراء الجاهلية إلاّ بشخصيات نوعاً من هذه النظرة (( انتقال المشاعر )) وإذا كان من اللزام على الدارس أن ينبش الكنوز المختبئة في بواطن الأدب فإن من المفيد له أن يمعن النظر في عملية الإبداع وفي المبدع نفسه والقوانين النفسية المتحكّمة بشخصيات العمل الأدبي وبالأدب نفسه وسنفصّل القول في هذه القضايا.ففي دراسة عملية الإبداع وآليتها يمكن لنا أن نشير إلى نظرية الإلهام عند أفلاطون الذي يعتبر أن المقدرة الإبداعية عند الأديب هي (( الحماسة أو الحب )) –إيروس –ويرى أن مصدر هذا الإلهام هو الوحي الإلهي حيث تدفع (( ربات الشعر )) موضوعات الشاعر له وعلى هذا فإنه يمكن للآلهة أن تنزع العقل عن الشعراء وتستخدمهم كهاناً أو سحرة ملهمين .
وتقوم عمليّة الإلهام عنده على تذكرّ الإنسان لما رآه من صور وماهيّات في عالم المثل الذي كانت تحيا فيه النفس ومن ثمّ تقليد هذه الصور في عالم المحسوسات مما يجعل الشاعر يحسّ بالجزع والحزن الذي يعقبه شعور بالحماسة يدفع الشعر على شكل أغانٍ.وأكثر الشعراء مدانون بأشعارهم الجميلة للحماسة ولنوع من الغييبوبة لا للفن وهم يشبهون على حد قول أفلاطون كهّان الآلهة (( سيبلي )) الذين لا يرقصون إِلا إِذا خرجوا عن شعورهم وهذه الحالة تشبه حالة الوجد والشوق عند بعض فرق الصوفية في بلادنا والتي ترقص إِذا هي أتحدث بالغيب وتجاوزت الوجود وقد اتبع أصحاب المذهب الرومانسي طريق أفلاطون وترسّم خطاه وصبغوه بلون من التصّوف فعند ((فكتورهيغو)) الشاعر ساحر يسمع ويردّد ما يتلقاه من عالم الغيب بينما يرى ((شيلي)) أن الشاعر ينقل للناس رسالة من عند الله .
لقد كانت نظرة الرومانسيين الأوروبيين للإِلهام تلتقي مع نظرتهم للطبيعة فكلامها هبة من الله .
ويعتبر الإمام أبو حامد الغزالي أن الإلهام كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صافٍ لطيفٍ فارغ .
بينما يرى محي الدين بن عربي أن الإلهَام ظاهرة ممكنة الحدوث لأيّ إنسان بشروطٍ هي :
- إيمان هذا الإنسان بقدرة القوة الخارقة /الله / .
- كون الإنسان صافي الذهن .
- استعداده لإدراك لطائف المعرفة .
ولكنه أي (( ابن عربيّ )) كأفلاطون يرى أن الإلهام فيض يتلقاه الإنسان من خارج الذّات .
ويعد ابن سينا الإلهام حدساً أو إِشراقاً يتحصل في النفس فتدرك الموجودات والمعقولات بما تستفيد ه من العقل الفعال وقد يكون الإلهام رؤيا بينما يكون الحدس متفاوتاً بين الناس ولا يمكن التوصل للعقل الفعال إِلا بالاتصال بالله و ملائكته وقد أعتبر ابن سينا الإلهام طريقة لتحصيل المعرفة من العقل الفعّال وترى الاتجاهات الحديثة وعلى رأسها ((ووردزوورث )) أن الشعر تعبير عن انفعال مستعاد بهدوء تظهر فيه غريزة إِظهار النفس ((حبّ الظهور )) وهذه الغريزة الاجتماعية ناجمة عن الرغبة في التعاطف ،والتلذذ بإِنشاء شيء جديد الشاعر كالطفل ينشئ لينفّسَ عن وجدانه الزائد . وهو أي الإلهام تألق وانجذب عند ((دي لاكروا )) و (( فيليكس )) بينما يرى (( ديكارت وبرغسون و اوستن وارين )) أن الإلهام عملية تأمّل لا شعوري ينتهي بالحدس .
ويبدو أن الفنان كما تزعم (( أديت ستويل )) يحتفظ روحياً ونفسياً برؤياه كما يحتفظ الطفل بمباهج الكون حين تبدو له. وهو كنبي الله موسى عليه السلام يرى الإِله من خلال العلّيقة المحترقة ويرى (( لامب )) أن الفنان يحلم في اليقظة بينما يرى ((بول فاليري)) أن الملهم تستلب إِرادته فتنهال عليه الأفكار .وإِذا تجاوزنا ((لامب )) إلى ((بودلير )) نجد أن مبدأ الشعر عنده يعتمد على الطموح الإنساني إلى جمالٍ سامٍ يكمن بالحماسة وانخطاف الروح وهو أي الإلهام عند ((بالدوين )) إِشراق ذهني يأتي مما وراء الطبيعة وهذا يخالف ما قاله ((ادغار آلن بو )) من أن عملية الإلهام موجهة من الشعور ويرى (( فرويد )) أن الإلهام حالة اللاشعور – التسامي – بينما يعتبر تلميذه يونغ ان مصدر هذا الإلهام الإسقاط في اللاشعور الجمعي الذي تكوَّن ضمن بيئة معينة وتلقى مفاهيم مختلفة . لقد تحدث أرسطو عن التطهير الذي تحدثه المأساة فينا وأشار إلى الإلهام، ولكن يبقى أن نقول إِن الإلهام عملية معقدة لم يستطع الأدباء والشعراء ولا علماء النفس أن يجدوا لها التفسير النهائي وستبقى الآراء متضاربة ومختلفة حول ماهية الإلهام .فهو كالروح سر من أسرار الوجود يشع ولا نرى مصدر إشعاعه ويتحدث ولا تبصر فمه ويسري في عروقنا ولا نلمسه بأيدينا .
إِن التفسير الخرافي الذي تبنّاه شعراء العرب سابقاً يجعلنا نؤكد أن عملية الإلهام عملية معقدة وهذا ما جعلهم ينسبون الشعر لشياطينهم حتى أنهم جعلوا بعض هذه الشياطين ذكوراً وبعضها إناثاً (( ولي صاحب من بني الشيصبان / فطوراً أقول وطوراً هو )) وقد بقيت التفسيرات الأدبية لمصدر الإلهام غامضة حتى جاء فرويد وتبنى نظرية جديدة في تفسير عملية الإلهام وما يميز نظرية فرويد هذه عن غيرها أن فرويد زعم أن أفعالنا تحفزها قوى نفسية لا نعرف الكثير عنها وأن هذه القوى الغامضة لا نستطيع التحكم بها إذ أنَّ مركز الثقل في الحياة النفسية الإنسانية هو اللاشعور ولا يمكن لنا أن نعرف هذا ((اللاشعور )) إلا من خلال تأثيره اللاحق في حياتنا وبعد فوات الأوان فالعمليات الواعية تكون واعية لفترة قصيرة ترتد بعدها إلى دائرة / اللاوعي / وهذا / اللاوعي / عالم محوط بالأسرار العميقة ويميز فرويد بين نوعين من / اللاوعي / نوع يمكن تحويله بسهولة وبشروط إنسانية إلى وعي ونوع يستحيل تحويله إلى وعي إلاّ بمعجزة كبيرة .
وقد أفسخ فرويد مجالاً للواقع الجنسي في اللاوعي الإنساني وهذا ما أخذ ّ عليه وقد رفض ذلك تلميذاه (( يونغ وإدلر )) .
هذا وقد قسم فرويد المناطق النفسية إلى منطقة ال/ هو / وهي مركز الثقل في حياتنا النفسية وخزّان الدافع الجنسي ومنبع الطاقات الحيوية فينا يحكم هذه المنطقة مبدأ اللذة وإِشباع الغريزة وهذه المنطقة تعادي وتكره المنطق ولا تعرف القيم الاجتماعية ولا الضوابط الخلقية تنطوي على دوافع متناقصة يمكن لها أن تتجاوز دون مشكلة غايتها إِرضاء الغرائز وهي مدمرّة في نهاية المطاف لا تهتم بسلامة الذات والآخرين .
ومنطقة ال (أنا ) وتعتبر النظم الأول لطاقات ال(هو) والرقيب عليها تنظم الدوافع على نحو يسمح به الواقع ويرضى به المجتمع حيث تجنّب الذات النهاية المدمرة فما يسمح به الواقع يلبى وما لا يسمح به يدفع إلى أعماق ال (هو) فإذا كان عسيراً تحول إلى /عقد / ويعتبر الجزء الكبير من منطقة الأناغير واعٍ ويسمى الجزء الواعي منه/ العقل الواعي / .
ويسند على الأنا دور الوسيط بين ((اللاوعي )) و(( العالم الخارجي ))وبين الرغبات غير المحدودة التي تقّرها الظروف والشروط الواقعية . ومنطقة الأنا الأعلى وهي المنظم الثاني لمنطقة ال((هو )) والحارس المتيقظ عليها خزان الأخلاق والمروءة والضمير الجزء الكبير منه غير واعٍ وهي قوة هامة يستنجد بها المجتمع لحماية نفسه من النزوات والرغبات والغرائز المدمرّة والتي لا يستطيع ال (( أنا )) وحدة تدبيرها أو كبحها أو لجمها يمارس عمله من خلال ال (( أنا )) أو مباشرة يقف أمام اندفاع اللاوعي عندما لا يقره المجتمع وينمو من خلال تربية الأسرة والمربين وهو محكوم بمبدأ الأخلاق ومبدأ الثواب والعقاب، فإذا كان نشيطاً أدى إلى الإحساس بالذنب .
هذا التقسيم الذي تبناه فرويد لاقى أستحساناً من قبل الأدباء و دارسي الأدب و ساهم بشكل كبير في فهم عملية الإبداع ورغم أن فرويد حيى بأنه مكتشف اللاوعي في الاحتفال بعيد ميلاه السبعين إِلا انه أشار إلى أن الشعراء والفلاسفة هم مكتشفو اللاوعي وما كشفه فرويد هو المنهج العلمي لدراسة اللاوعي إِن علم النفس يقول/رينيه ويليك/ و/ أوستن وارين / في كتابهما (نظرية الأدب ) ساهم في الكشف عن عملية الإبداع , وفي نبش خبايا نفس المبدع وفي الكشف عن غوامض العمل الأدبي (2) .
وفي دراسة نفسية الكاتب يبدو أن العبقرية لدى الكاتب / الشاعر / كانت تقرن بالجنون عند الإغريق وتنسب إلى شياطين الشعر في وادي عبقر عند العرب وأصبحت حديثاً تؤوّل بالمدى الممتد من العصاب إلى الذهان فالشاعر رجل مجذوب عند البعض والموهبة تعويض عن نقص عند الكاتب على مبدأ كل ذي عاهة جبار فقد كان أبو حيان التوحيدي أعور وابن سيدة اللغوي الأندلسي أعمى وكذلك بشار بن برد وأبو العلاء المعري وربيعة الرقي وطه حسين وعبد الله البردوني وكان بيتهوفن أصم وكتيس قصيراً وبروست عصابياً وبايرون أعرج وبوب أحدب ، فالكاتب عند فرويد عصابي عنيد يصون نفسه بوساطة العمل الأدبي من الانفجار وتثير نظرية الفن كعصاب التي تبناها الكثير من المفكرين مسألة علاقة المخيلة بالاعتقاد ، فالروائي يشبه الطفل الحالم الذي يحكي لنا الحكايات فيخلط عالم الواقع بتخيل من عالم آلامه وآماله ومخاوفه ويرى أليوت أن الفنان أكثر بدائية كما هو أكثر تمدناً من معاصرية وباعتبار أنّ الكاتب عضو في مجتمعه فهو أكثر الناس تمكناً في التعبير عن أحاسيسه رغم أنه ليس أكثر الناس إِحساساً ، ويوفرّ الكتَّاب والشعراء المادة الخصبة للمحلل النفسي لأن شخصيات أعمالهم تمثل أنموذجاً يمكن دراسته والحكم عليه إِن / أوستن وارين / يعتبر الشاعر حالم يقظة يحظى بقبول المجتمع وبدلاً من أن يغير شخصيته ينمي خيالاته وينشرها (3) .
يقول فرويد ((الفنان في الأصل رجل تحول عن الواقع لأنه لم يستطع أن يتلائم مع مطلب نبذ الإشباع الغريزي فأطلق الفنان كامل رغباته الغرامية ومطامحه الذاتية في حياة الخيال ثم وجد طريقاً للعودة من عالم الخيال إلى عالم الواقع وهو يصوغ نوعاً آخر من الواقع / العمل الأدبي / )) .
إِن الأديب إِنسان شفّاف مشرق الروح والفكر تتميز أعصابه بحساسية دقيقة تكتشف الواقع بكل أبعاده ومعانيه وتتحسس الصعوبات التي تتوضع في حياة الآخرين سواء أكانت فكرية أم اجتماعية أم فلسفية وهو في الوقت نفسه يعشق الجمال والكمال المطلق بفطرته التي وهبها الله له وباعتبار أن الصراع قائم بين ما هو واقع / فعل _ فكر غير مرضي / وبين طموح الانسان لبلوغ الكمال المطلق فإن الأديب يرسم لنا صورة هذا الصراع ويفترض الحلول المشرقة لصورة الواقع المشّوهة. فصورة المرآة في الواقع أقل مكانة من صورتها في الأدب وكذلك صورة المعلم / كاد المعلم أن يكون رسولا / إذاً لا يقبل الواقع على ما هو عليه لأن شكل الكمال المطلق الموجود خياله وفكره .
وتدعونا دراسة نفسية الكاتب إلى الكشف عن القوانين النفسية التي تحكم الشخصيات التي يرسمها هؤلاء الكتاب في أعمالهم ذلك أن الإنسان هو محور الأدب وهذا ما يدعونا في قراءتنا لأي نص أن نجد نموذجاً لإنسان ما يحملنا على التفكير في الأسباب التي دعت هذا الأنموذج من الناس إلى التصرف على هذه الشاكلة أو تلك ./ فدون كيشوت سير فانتس / قتل مجموعة من الأغنام وتصورها أعداء له ولما اكتشف أنها أغنام وليست بشر قال : الحمد لله الذي مسخ أعدائي أغناماً وكذلك فعل الشاعر العربي (( الراعي النميري)) المصاب بلوثة في تفكيره مع كلب وظاناً أنه لص .وأوديب تزوج أمه وقتل أباه وشهريار كان مولعاً بالزواج والقتل يتزوج كل ليلة أمرأة ويقتلها في الصباح وشخصيات قصائد نزار قباني من النساء لأن مأساة أخته وصال بقيت ماثلة أمام عينيه .
وكثيراً ما يعكس الكاتب دوافعه النفسية على لسان شخصياته أو كثيراً ما تندفع الشخصيات بالحديث المختبئ في عمق وجدان الكاتب ذلك أن الكاتب عضو في مجتمع يستمد منه أفكاره وتؤثر فيه معطياته .
إن شخصيات قصة / أرزاق يا دنيا أرزاق / للكاتب السعودي علوي طه الصافي هي شخصيات من صميم المجتمع تحكمها دوافع نفسية راسبة في أعماق لا وعيهم فأعظم شخصية في هذه القصة تحكمها آلام القهر والصمت والفقر وأكثر ما يبعث التناقض في حياة هذه الشخصية أن المغنّي يجمع الملايين بينما الملايين لا يجدون إلا أوراق الشجر طعاماً لهم ، وكذلك شخصية الزوج السكير في قصة / شمس صغيرة / لزكريا تامر فهو حالم يقظه يتصور الخروف جنياً يمكن أن يقدم جدار من الذهب التي وعده إياها ويمكن له بذلك أن يحل مشكلة الفقر التي تسيطر عليه وتسير حياته ، أنه رجل تحكمه ال (هو ) بما فيها من رغبات وغرائز .
وبناءً على ذلك يمكننا أن نجمل القول بأن علم النفس دخل في صميم الأدب وأصبح مسباراً فعالاً يساهم في الكشف عن جوانب العمل الأدبي وفي نبش ذات الكاتب وتوضيح اتجاهاته وهو ضرورة هامة من ضرورات الأدب .